بدا يتصور بطبيعة الحال أن سبب العدوى الحقيقية قد يكمن فيمن انشغلوا بمتع الحكام. وفي غمرة هذا، أصبح الوطن الغريب، الجديد ذو العينان اللاذعتان، الملجأ الآمن؛ لمن يشترك معه في صب الآلام، الأحزان، في قلوب الضعفاء، أبناء كنعان والسلام.
يمكنك قراء الجزء الرابع من رواية شهيد الوطنية والتي تتحدث عن الرابع من حزيران/يونيو، وقد اهتاجت الآفة القرى الفلسطينية.
أن وجود ضغط القصف في القرية قد فرض، شيئاً فشيئاً، وعلى نحو يلاحظ؛ عاصفة، رعدة، مخيفة-باردة، تثير في وجه اليبناوي المتعطش نسمة نكرة تضرب بأمواجها الجوهر العميق إلى فكره الصاخب، الذي لا يكل عن التفكير بتخوّف، والذي أحس وهو يرتعد أن قلبه يخفق خفقاً أشد الذي ينبعث مضطرباً من اللا إنسانية التي يمارسها اليهود ومن صنوف حياتهم التلمودية، لكنه على الأقل أصبح بوسعه رؤية الرعب، أصناف منه، وكلما زاد تطرقه، لاح له أكثر غرابة.
فكان، كسابق عهده من قبل، يبقى ساعات طوالاً، صامتاً، ساكناً. وكأنه ينتظر قدوم البعيد إليه؛ لإنقاذه عن كل شيء فيه حفارة أو ذل، خساسةٌ، وبالأحرى يترفعُ عن كل دناءة. لكن عينيه تعبران الآن، في أوج هاوية القصف الكثيفة، المريعة. بات يشاهد عائلات كثيرة العدد، التي بدأ بعضها في الفرار إلى الساحل، عن الانصراف من المراقبة إلى الرحيل، حتى ابتعاد فكر الفلسطيني عن الحلم الإنساني، القوي الأصيل. وكان كلما أمعن في التفكير، أمعن نظراته في طفلته الصغيرة، في التفكير بمصيرها وبمصائر الأطفال جميعاً، بعدما وضعت الأمهات اليبناويات طائفة جميلة من الأطفال "صبيان وبنات" كل واحدٌ منهم لديه صفات مميزة، فمنهم الهادئ، الكريم، الرفيع، وذات حسن لا يشوبه عيب.
وما لبثت هذه الهنيهات الحلوة في الروح أن تعكرت وأصبحت في طياتها تسبب له أوجاع جدادية، فقد كان عليهم الرحيل في وقت الظهيرة اللاهب، كي لا تعتريهم الآفة الغريبة، منحدرين إلى الهاوية، السواد، إلى أن تنمي بهم روائح الشوق والغربة، عند ذاك أحس أن صورة أحلامه الجميلة ليست إلا صورة مسلوبةِ من كيانُ الوطن العميق البديع.
كان يشعر بما يراه حادٌ أليم، عند تمثيله للحظات الجادة، إلى عائلات قد رحلت، مارة من أمامه وتصب موجة غاضبة مفزعة تحويه وتُحدِث ألماً عجيباً حتى في أشد رعشاته بعداً، دون الخضوع لأي نزوة شاذة، تنافي طبيعة التحرر الإنساني.
لم يعرف أبو كريم القيلولة، هكذا كان يمضي تفكيره على شيء من غرابة الأطوار، ينظر بدهشة حالمة إلى الواقع-قلب العواصف، كان فكره يضيع فيه، ويتملكه شعور القلق والخوف، الحزن. عندما يستسلم فكره إلى حدٌ لا يتخطاه إنسان قروي ضعيف، خائر.
"غادة" قال أبو كريم، ماشياً على أطراف أصابع قدميه وهو يقترب من فرقة النجادة 'كتائب الفتوة' كي يلفت بذلك الانتباه: "طفلتي! لن تموت هنا. سوف أقدم الروح كتضحية بطريقة عازمة على المضي في التحدي، لدرجة أن أجمد كياني من أجلها. حتى لا أرى على امتداد بصري وجهها الصافي، الجميل، الصغير، أمامي أراه رقيقاً غريباً، بارداً، صامتاً، لا يعبأ بي؛ فتسودني معنوية رَهبة والآم تقبض أنفاسي".
أشاحت غادة بوجهها، وتمتمت 'أوه' بعدما ألقت رأسها على جزع شجرة البرتقال سلفاً وجعلت تتأمل من أعلاها سماء يبنا وتُفكر. شعور مألوف هيمن على غادة: إحساس غريب، غامض، مقلق: يتعلق بمصير الوطن، يتعلق بأبنائه، يتعلق بالبقاء والإنسانية-كانت تلك أحاسيس شعرت بها قبلاً في مناسبات عديدة، مماثلة، ولكن الآن بشكل واقعي شديد.
"فيما يجدي أن تلفت انتباهك إلى قلق كهذا، إلى نوعاً من الرغبة الغامضة المرتكزة على تحديد الخير من الشر، أترك الأمر لله، رب العالمين!" قالت غادة، بصوت خافت.
أبو كريم أصغى إلى تلك الكلمات جيداً. كان يتطلع لعدم التواكل من وجهة نظره وفي نظر أنداده. هو يخشى التواكل، بطبيعة الحال، الخاصية التي يعتبرها الأقل جدارة بالاحترام في الحياة؛ وهذا ما شتت ذاته، لسبب جاد ألا وهو أن يفلت ابنته منشغلاً جداً وسط التوتر والخوف، الصراع والحرب-إني أقول الحقيقة. إنه قليل الميل جداً إلى تسلية النفس من أجل تذوق دغدغة الوجوه الغريبة التي كانت قواها ستعاود التحلَّق حول الإنسان الفلسطيني الجاد في العمل، والمحب للخير.
بصراحة تامة أعترف قائلاً أنه رجل همّ بالتفكير في الرحيل، الهجرة. لكن شيئاً ما يُجبره على البقاء، التحدي والمغامرة، وهو يفضل أن يحملّ بالعبء الثقيل، من أجل حماية ابنته.
هذه الآراء المتضاربة حول هذا الموضوع يجب، إذا ما تحدثنا بالصرامة، التوفيق بينها، كقاعدة لتبرير الذات. أن يغادر وطنه ويجلس ساكناً في صمت وكتمان، ضياع بين أبناء الشيطان. حتى من دون أن يكون هو نفسه واعياً بفعله هذا، وإن يكون كل شخصه قادراً على تكريس عقله ليجازف، يغامر، القليل من اللا متوقع. لا يعلم إلا الله كيف التنافر؛ الذي يُجلب قوة غريزية، قوة تشغله عن التخوّف، التشتت، ربما تحدٍ من أجل أن لا يذهب إلى ترقب البعيد. هل سيكون قادراً على أن يجد الصواب في ذلك؟ ليس لدي جواباً صارماً، إلا أن جدارته تلك، من المحتمل أنها لن تمكن واحدٌ من هؤلاء الغرباء أن يسخر منه، إذا تمكن من البقاء على الرحيل، الفراق، الذي لا يجلب سوى الأسى المتوقع بالتحديد، متبوعاً ب اللا إرادة.
لم يكن ميالاً لفكرة الرحيل. كان متمرداً عليها، ووجد أنه لا بُدّ من الأخذ بجملة الأسباب كي لا تعبأ به وبعائلته مرارة الأحزان والكتمان، كي لا يُشعرِ عائلته أنهم غرباء في زاوية بعيدة عن حافة الوطن في حين غرة؛ وكأن الروح قد انتزعت إلى الأبد، البعيد. إلى المكان الذي تقل فيه جميع الطاقات الإيجابية إلى الروح الإنسانية.
وما هي إلا بضعة ساعات، حتى تم تشريد باقي عائلات القرية والقرى المجاورة؛ بصورة تولّد لديهم غريزة فطرية، رغبوية متعطشة إلى الحرية، الأمان والسلام، فهاموا على وجوههم في كل حدب وصوب، فمنهم من عبروا السهول والجبال... إلى الخارج، البعيد. ومنهم من بقي في الوطن، بحالة تبدو جد صامدة، عازمة، في التحدي ضد فكرة رحلة بعيدة تُصرف الفلسطيني عن إنسانيته، قوميته، وطنيته. لذا كان عليه أن يتوقف كالمتشرّد الذي لا حول له ولا قوة؛ ولكنه صامداً، متحدياً.
كان أبو كريم يرى النسوة يلففن أقدامهن بالشرائع القديمة التي تصادفهن بالطريق، لحمايتهن من الرمال الملتهبة، كما أنه رأى الأطفال والشيوخ يتحركون في كل مكان. عند هذه النقطة اتخذت حياته الانعطافة الآتية. كان يلزمه أن يبقى متصلباً لغرض خوض المعركة. كان ذلك اقتراحا جلياً، بينما هو يُرهف عينيه لكل شيء يراه، ويحس كل ما يقع به على فؤاده بوخزة، بالآم لا يعرف مثله في غيره من الناس.
بدأت السماء تغيم رويداً رويداً، وكانت ملبّدة ببضع سحب خفيفة، حابسة أنفاسها. بدت السحب وكأنها تطفو على البلدة؛ فتعكس شفافية السماء. كانت تقف في هذه الليلة موقفاً صلباً، متجذراً كالمناضلين. لكن لم يكن باستطاعة المرء الدءوب بأية حال، أن يعرف إن كانت سماء يبنا غنية السحب، أن تشبك أقداراً مختلفة بما يشبه خيم مسك يحوم حول إثره ألف ثائر، في ظل تحدٍ واحد، تلك التي تصورت غيومه الجبارة قصة وطن وبائس، وأوضحت إلى الشباب المجاهدين العارفين، المتمسكين بالوطن أن ما وراء الهاويات المكتشفة إلى جانب ستاراً أبدياً من الحرية الممكنة، المتعمقة؛ إنطواءة فيها المعاندة وفيها تجريد النصر كل النصر.
وأخيراً، إن أبو كريم، الثائر القديم. كان يسير في وسط القرية. حيث وقف بجدارة إلى جانب صديقٌ ثائر، بالقرب من مطحنة علي الهمص. فقال صديقه بتردد وهو يلقي بسلاحه إلى الخلف؛ بتكلف: " لقد سمعنا بعد ظهر هذا اليوم، أن العدو قد يدخل البلدة! فلما لا تذهبوا إلى أسدود؟ ".
فنظر أبو كريم إليه، معارضاً وقال بلهجة تعبر عن الغيظ والتحدي معاً، وبصوت أجش يرتد صُداه في أنين صاخب: " لن نغادر أرضنا! " ثم توجه نحو المنزل؛ فقد كان بحاجة قصوى إلى الانضباط-بعد أن ابتعد عن حشود الثوار. وفي الطريق، رفع بصره نحو السماء؛ بقلب ورع، وشاهد السحب في السماء، تواجه معارك ساخنة، ضاربة من أجل البقاء. كان يطلٌ على السحب بنظرات الرجال المحاربين القدامى من أمثال ابن نافع، ولكنه لم يعرف إن كانت تلك السحب توحي بالنصر أو الهزيمة.

إرسال تعليق