7 فكرة البقاء 'الحل الأخير' و أخلاقيي البطولة - شهيد الوطنية

أصبح أبو كريم ميالاً للاكتفاء بفكرة البقاء 'الحل الأخير' إلى تمجيد هذا الاقتراح، وهو يستشعر القلق الغريب.


يمكنك قراءة الجزء السادس من شهيد الوطنية والذي يدوزر حول مناقض لنموذج البطل المشرف والتهجير.


7 فكرة البقاء 'الحل الأخير' و أخلاقيي البطولة - شهيد الوطنية

وعند رحيل العائلة من البلدة، هناك وجدّ جمهوراً أكبر من ذاك الذي كان في فترة الصباح. وأخيراً، وبعد عبور منعطفين خطرين، بارزين، وقع نظرهم لأول مرة على البعض من أبناء القرية. أولئك النازحين وما يزالون واقفين، أخلاقيي البطولة أولئك، الذين قدموا بفضل تضحياتهم، في أداء أدوار البطولة. وكم كانت تلك اللحظة مأساوية؛ فقد عادو متسللين، مضطرين، إلى منازلهم المبعثرة، في محاولة جد خطرة، ممجدة بصورة جديرة بالإنسانية، لجلب ما يُبقي عائلاتهم على قيد الحياة. عندها، كان يتمنى أن يداهمه الموت، همس وهو يضغط على يد ابنته بإحكام، قائلاً: " أنظري يا غادة! أنظري! إنها لإندفاعةٌ بشعة، في ضوء حربٌ بربرية، أليس كذلك؟ ".


وهنا، توقف أبو كريم ساكناً، وغرز أوتاد عكازتيه في الأرض؛ فقد كان عليه إلا يبدد نفسه، يفرط بالحماس، يؤجل بهدوء فكره المتدفق؛ بدفعة واحدة. لذا، استسلم جهاراً للشر المعروض دون وعي كامل منه. ورأى من مكانه سماء يبنا التي تتلألأ من حوله وتتمسك بالشهب الحمراء، ويُدهش للسحب التي يلاحقها بصره، فتثير معظمها الدخول إلى رأسه الأشيب. دون صعوبة خارقة، فاعلة، تتبلور فيه، في شكل صور حية، ألوان حزينة، وقائع أليمة. وفي هذا صُبت تصوراته، في رسم صورة واقعية للإنسان الفلسطيني، وسئل شخصه وقد آلمته جمجمته من العبث الممنوع: " إنني أتساءل عن موقع منزلنا، الذي قيض له أن يُترك دون أحد ". وكأن شأن هذا الانتباه الخاص إلى أدق التفاصيل، أن أسبغ على جبهته طابعاً مميزاً، نادراً، ولم يتفوق ويبلغ ذلك الحد من الكمال، إلا لأنه إنسان فلسطيني انكب على الدفاع عن وطنه، مكرساً له سنوات جبارة تؤاتيه فيها قوة الفكر: فشفتيه كانتا تبدوان جد قصيرتين وكانت تفتران كلياً عن أسنان طويلة يبرز صَّفاها بين اللثتين، وحاجباه يتحركان. قليلاً، وعيناه الحزينتان تتحريان شفق الألوان، لتضفيان على تقاطيعه كلها طابعاً عنيداً، مؤثراً ومتوتراً في آن واحد.


بينما كانت العائلة تسير إلى الجنوب، في قسوة الليل الحالك، شعَر أبو كريم بالإنهاك؛ فتوقف. وبهدوء، أدار بصره ناحية البلدة، وهو يتصلب، متخطياً عوائق الخوف والفزع. فقد شاهد ضواحيها الداخلية، دون أن ينبس ببنت شفة. حينذاك، اقتحمت عيناه جامع البلدة الكبير. وما أن أنهى معايناته إليه، وفيما كانت خيالاته تتعهد ثوار يحبون حباً وطنياً، تشجعهم، تدعو لهم النصر. كان عيب من عيوب الكهولة قد أثمر تفوقاً على دور القروي المبجل المتدلي من شفتيه يتفوه بكلام موجع، قاسٍ. حتى مال برأسه صوب أخته وهو يقول بأسى: " غادة! لقد أسقطوا جزءًا منه، وشعلة من النار أججت جذوتها معماره وارتفعت ألسنتها إلى أعلى " وأُغروقت عيناهُ بالدمع.


ومر أبو كريم بفترة صمت... وما لبث بعد هذه اللحظات المرعبة أن أصيب بخيبة أمل أخرى-أغلب الظن أن لديه ذي القدر والأصالة، فإن حب الوطن أتاه من المرارة مبلغها_إذ أنه رأى بالقرب من جامع البلدة، أناس ينزحون، يتغربون، إرادة البربرية، الصارمة والكئيبة، الذهاب إلى البعيد، آخر الحدود.

إن الوجه المألوف لخيوط القمر الباهتة التي يراها تحلق بصورة غريبة حول بصره المصرع في الضياء، أخافته. ولقد وجد أبو كريم إبان لحظات الراحة والجرأة، ثوار فرقة النجادة ذات الوجوه المعروفة، سرعان ما تصور أنه تعرف على الثوار، من أبناء القرى المجاورة، الذين يحملون أغصان أشجار التين والزيتون التي تتثنى وهي حاملة بعض من الأوراق الخضراوات، ويتسلقون قمم وعرة من أكثر الجهات انحدارا. وقد سُرَّ كثيراً؛ بهذا التصميم... حيث القروي الذي صار شديد الجرأة، ممتلكاً ناصية ثأره يقول لا للظلم، وقد تلعثم أبو كريم عند مشاهدته بييايير الحمضيات تظهر من بعيد مشوهة وسوداء، مجردة من طبيعتها، تغطيها من هناك بقع بيضاء من الزهور الجذابة التي تتفتح بعبير الوطن. عندئذ، عبَّر أبو كريم عن الأمل وسط التوتر والخوف، بتعبير تطلب جهداً جهيداً. شعر بأن كل شيء يتنفس الآن، تقوى الإرادة، وتثبط الهمة للمجازفة، رغم إحساسه بجرح جد عميق، جبار دون أن تلزم الروح؛ كمشاعر كل فلسطيني لا يعرف المستحيل، يشعر بتيار عام من القوى الجرأة، نتيجة لحلم وطني أصيل، يتدفق منه.


أما غادة، فكان القصف لا يُجل لها إلا غموضاً خطراً، جلبةٍ، نذور حياة تشرد دائمة، وكانت تتخيل أنها تسمع جريان مياه وادي أبو هريرة التي تتواثب على الحصى، وقد تملكها القلق والخوف الحزن، ثم أي تحدٍ، في أن تتوارى في الأرض الدافئة الندية الرخصة. وكانت أغصان شجرات الزيتون الصلبة التي تتهامس وراء اللهيب، النيران، تتداخل وتطرق الهواء طرقاً عنيفاً، وتنتقل من الكمال التام إلى الموت، من دونما نجدة. وكانت كُتل اللهيب التي علقها قصف الطائرات في أسطح البنيان، تستمر في الهبوط تحت تأثير السقوط الحر، فتساقط آلاف الشهب المتلألئة سريعة ذات ضوء، فترى في البلدة كأنها جُند من ملائكة الرب، تساند في دفع الشر. وكان يسمع من حين إلى حين، خلال هذا الاضطراب كله، خلال المعركة الأليمة الشرسة التي تؤدي إلى الانحلال والفناء، أصواتُ كلاب نباحةٌ من بعيد، وهي تتهاوى من السماء في إثر بعضها بعضٍ، كأنها تضمحل في الهواء بتُؤدةٍ، رفق.


إن انبعاث نار الحرب هذا، كان يتحلى على وجه أبو كريم بتعبير أليم، لا بل مضاداً للإنسانية، فكان أبو كريم يندفع إليه، في تلك الفترة بالذات، ويصطحب نفسه إلى نتائجه، وكانت غادة أخته تسأل نفسها قائلة " ما الذي حل به؟ ".

كان أبو كريم يتفرس في وجه ابنته، فيمد نفسه بإحساس غامض من الفرح، زد على ذلك أنه بدا نحيلاً محزون الملامح لم يشعر حتى بوجود غادة، وأدركت غادة وقالت وهي ترى على وجهه أنه يشكو من شيء خطير، كأنه لم ينجز طيلة حياته أي عمل يومي إلا بعينان خائرتان " عليك...بالصبر! ". فقد عرف فترة قصيرة من السعادة التي وضعت حداً لها وفاة زوجته وحياة تشرده.


بلى، لقد كان أبو كريم قلق: فهو حيناً يشكو من ركبته المبتورة وينتهز أول فرصة ملائمة ليؤكد أنه لا يستطيع التقدم، وطوراً يدهشه أنه لا يرى من خلال عينين لا سبيل إلى سبر أغوارها؛ الشهب الحمراء التي أخذت تضيء المكان والتي تصمت الآن فجأة، وتغيب في ظلمة السماء.


وجّه أبو كريم انتباهه إلى تجمعَّ حشدٌ من الناس، كان يتخيل أنه استقر أمام أولئك المنذرون لحياة تشردّ دائمة. هناك، بدا متحمساً وقد علت وجهه ابتسامة باهتة ممتزجة بشقاء وشاعرية. كما لو أن القدر إنشب في ظروف خطيرة مخلبة في تلك الهيئة الغريبة طوعاً بتعبير مضطرب، سرعان ما تخيل أنه تعرف على الجميع من أبناء القرى المجاورة، فهذا من قبيبية، قزازة... رنتيس، حباً منه بواجب الأخوة، الصفاء والمحبة، الاندفاع؛ فإذا هو، مهما يكن عدد الأشخاص الذين رآهم، ومهما تكن تحركاتهم، فباستطاعته أن يميل إليهم، على نحو خاص، في ردود سريعة، إلى تسلية ذاته، إنسانيته، من أجل إلقاء نظرة واسعة واضحة تؤاتيه نبذة من طعم الحياة المرير، كذلك تذوق جزء من آلامهم، معاناتهم، كنازح أو ربما لاجئ، متشردّ.


وإذا أمسك أحدٌ منهم به فجأة؛ تأثر، ابتسم له بصورة جد عجيبة، بعد أن نفض رأسه، بحيث يرتد شعره للوراء؛ ليخفي عنهم ما وقع عليه من تعابير الألم، مواطن الحزن، وكأن الجميع غدو إخوانه في الدم.


ولكن، كان ينتابه اضطراب بشع، معقد. فإذا رأى هناك شخص يهودي؛ فإنه تستولي عليه صورة هائجة، جد مبعثرة؛ فهو يضمَّن نظراته نصف المتصفحة، التي يتأمل بها الطفيل الغريب بعمق وتيه، وفي حذر شديد، تحقيراً له. وتعبر غريزته الوطنية عندئذ عن إحساس قبيح متعصب، توتر داخلي، وكأن لديه وسط الإكراه الصلب الكثيف رغبة المجازفة، بالنظر في قعر عينيه، بحقدٌ يضاهي حقد أدولف هتلر لليهود. كان تدبير كهذا يرضيه عميقاً، يرسم مغامرات وطنية، فتية، دائمة التجدد، وهو مقتنع.


إرسال تعليق

التعليقات (0)

أحدث أقدم