1 يوم صيفي في قرية يبنا الفلسطينية 1948

في وقت متأخر من بعد ظهر يوم صيفي من عام ١٩٤٨م، بالجنوب الغربي لقضاء الرملة، كان رجلٌ متواضع، سيء الهندام. يجري مهرولاً إلى منزله، مفزوعاً؛ كالأحلام التي تتصارع فيها صور داخلية.


1 يوم صيفي في قرية يبنا الفلسطينية 1948

كان أبو كريم الذي أرهقتهُ صعوبات العمل الصباحي، عليه أن يُدقق انتباهه إلى نبأٌ أخير، فجرّ قلبه بِنبضات مجنونة، وجعل روحهُ المسكينة صارخة، عندما فكرّ بِمولوده البكر الذي ستضعه الزوجة، وسط تصارع الخير والشر في ألمٌ يدفع لسلب الضمير الإنساني_الحلم الإنساني الرائع الفطري_هذا الكائن الجديد سوف يولد في شهره السابع بشكلٌ غير متوقع.


وعند انعطافه بالقرب من السكة الحديدية في وسط قرية يبنا، متوجهاً نحوّ الغرب، ظهر فجأة من شجرة النخيل العالية، نورٌ أحمر أُلقيّ ضوءاً على عدد من الرجال العظماء، الذين اندفعوا بكل ما أوتوا من قوة العمل الشاق وكأنهم يقولوا: ' لقد أنجبتنا هذه الأرض، وألقت النور بروحها الخاصة بنا! ' وفي الحال غمرت المياه وادي أبو هريرة نفخةٌ من القوة الجادة؛ كأنها تُناضل الظلم، وتقفُ متصلبة ضدّ كل المتحجرين البرابرة.


أخذ أبو كريم نفساً عميقاً، لقد شعر بدافع جديد إلى الحياة، إلى إطفاء عاصفةٌ متوهجّة، وبأمل زاهٍ في الخبر السعيد؛ أعتقد أن بإمكانه أن يستعيد عافيته، وأن تُطيعه عاطفته الجديدة إلى مستقبل واعد.


كان الظلامُ قد هبط، عندما وصل إلى منزله؛ فوقف أبو كريم عند الباب مستنداً بذِراعيه الجامدتين على المقبض الحديدي، وعيناه متقدتان، وفي الشارع، نظر إليه حاجٌ عجوز رثّ الثياب نظرةَّ بدت إنتقادية وسأله: -" لماذا تُسرع هكذا يا بن البطل؟ هل حدث مكروه ما؟! ".

-" مكروه ما! لا خوف! " قال أبو كريم، بشيء من السعادة: -' كل شيء على ما يرام، سوف أغدو أباً؛ إن شاء الله '.


وألقى أبو كريم نظرةَ سريعةَ عليه، ودخل منزله بطريقةٌ منطوية؛ حيث كان يتميز بالانطواء الشديد. كان من الطراز قليل الكلام، وبعد بُرهة فُتح الباب الداخلي، ورحبت فيه أخته غادة، وهي قصيرة البنية، في مقتبل الأربعين.

-" حسنا! حسنا! لا بُدّ أنك أتيت إلى هنا مسرعاً، أنا مسرورةٌ لِأجلُك! " قالت غادة، وبينما هي تسيرُ إلى الأمام. وأضافت بابتسامة ودّية: -" عليك بالدعاء؛ سيبلِغُ الأمر نهايته! ".


دخل أبو كريم إلى غرفة صغيرة وباردة. وأشعل ضوء القنديل، وفي تألقه الزيتي بدت الغرفة فارغة من أثاثها؛ كانت المفروشات فيها قليلة جداً. وأدار أبو كريم بصره فيها، وخطا مبتسماً جيئة وذهاباً، تذكّر أن هذا الشعور لم يُراوده من قبل، في مجازُ كهذا.

وأجال أبو كريم نظره في الغرفة الخالية، وقال بصوت رجلٌ مؤمن: -" يا إلهي! لديّ إيماني الخالص إليك ".

جاءته غادة بعد فترة وجيزة، وقالت: -" الطفل! سوف يكون قريباً بين يداك. وللعلم، من دأبه أن يأتي إلى الدنيا باكياً " قالت ذلك بمزاح مرح.


نظر أبو كريم إليها مندهشاً، وبِتوقٌ شديد متلهف إلى رؤيته، كان قد أمضى عامين كاملين يتملكه شعور يتمناه كُلّ بشرٌ لديه غريزة البقاء، وقد تنتهي الليلة هذه المخاوف دون كرّة.

فاستدركت غادة صمته. وقالت متمتة: -" أوه! إن شاء الله " بصوت راعش، ثم تركته يجفف دموع الفرح، وذهبت إلى زوجته.

عندما دخلت غادة إلى الغرفة الدافئة، التي فاحت منها رائحة المعاناة، الألم، المخاض. تلفّتت الزوجة ببطء، في سريرها، وبِجهدٌ كبير، بما يُشبه ألماً لا يطاق. لقد كانت الزوجة الشابة، متعبة العينين، تعلو وجهها تعابير ألمٌ شديد، وبينما كان ضوء القنديل يتلألأ على سريرها؛ باحمرار... وقد بدد قدراً كبيراً من الطاقة، ظهر وجهها كئيباً، جامداً، وكأن لا حياة فيه.


وأصيبت غادة بالذهول، وطوّقت بِالحلقة المألوفة أفكارها، ثم غدا صمتٌ مُربك. وأخيراً، قالت القبّالة بعد عمل شاق: -" لا داعي للتوتر؛ فهي ما تزال طريةَّ العود، ودائماً أول ولادة عسيرة ".

وحدّقت الزوجة في غادة، وقالت بصوتٌ متعب: -" زوجي! أودُّ رؤيته! ".

عندئذ نظرت غادة إليها مصدومة، مبهوتة، وتمتمت: -" حسنا! " وغادرت الغرفة.

ابتسمت غادة إلى أخيها، حتى لا توقد القلق، وهو يلحق بها، بالرغم من أن زوجته بدّت مريضة، متعبة، إلى درجة عالية من الخطورة.


وعندما عاد إلى الغرفة الصغيرة، الخاوية؛ برفقة أُخته. سمع بِأُذنيه اليقظة، صوت بكاءٌ إلى طفلٌ رضيع. أدرك الصوت جيداً، كان انبعاث الصوت الآتي؛ يُشبه صحوةَّ جديدة إلى عواطف منهكة، فطرةٌ مشبوبة الغريزة، إلى أُبوةٌ قد تخفي أمامه أوقات العذاب والاكتئاب ويطويها النسيان.

أبو كريم سمع أخته تصرخ من الأعماق: -" أنت رجل محظوظ؛ لقد أصبحت أب، تهانينا! " وتوقفت ثم نظرت إليه، الذي بادرها قائلاً: -" شكرا لكِ! هيا لنراه " قال أبو كريم ذلك ضاحكاً، مضطرباً؛ بفعل اهتياج المشاعر لديه.


فأطلقت غادة ضحكةٌ خافتة وقالت: -" حسنا! كُلّ ما يتوجب عليك أن تتذكرّه، أن تُؤذن في أُذنيه، فلا تنسى هذا ".

وانطلقا إلى الغرفة الدافئة، وتغير سلوكه فجأة، عندما رأى الزوجة متخدرة، مفزوعة؛ فلما دوّى في الغرفة، صدى صرخة الوليد الثانية-مع صدى صوت انفجار مُجلجل-أخذت الزوجة تضرب في رِقادها، مغمضة العينين. كانت عيناها وديعتان على الدوام، غير أن التعب وبعض الخوف بدءا يُلوحان عليها مذ المساء، بِمزيدٌ من الآلام. وهمهمت شفتاها بصوت خائر كما لو أنها تصرخ من الأعماق؛ بٍألم طفيف، موجع. وظهر على وجهها الشاحب، الذي يكاد يكون وجه طفلة ذي ملامح مجنونة، علائم ألم تأخُذ بِتلابيبها أسرع فأسرع، تضيق الزوج به، كما يضاق رسام عبقري بخطأ يشعر به؛ خطأٌ يورثه نوبة ثقيلة من الخجل.


نظر أبو كريم إليها بِجدّية، وقرب أُذنيه من شفتي الزوجة النفساء المدمدتين، وهمهمت برقة كما لو كانت تهمس في أُذنيه؛ بِصوتٌ غير سوي أثناء التنفس: -" إعتنِ بالطفلة، أرجوك! ".

-" طفلة! أوه، أتقصدين أن المولود طفلة، الحمد لله " قال أبو كريم، وفجأةَّ انفجر ضاحكاً. شرع يضحك ضحكة شديدة، يتعذر كبحُها، هزته هزاً كاملاً وشوهت وجهه. ولم يلبثوا أن سمعوا دوي قذائف جديدة تهوي صوبهم؛ فتغلب أبو كريم على مرحه الصاخب وتوقف، وتلّونت الزوجة من خديها الشاحبتين مائلة إلى الاصفرار.


-' ما بكِ؟ تخافين هذه الغارات! ولكن الأمر دائماً هكذا، اطمئني بالاً ' قال أبو كريم، ولوى فمه بتعبير ينم عن الضيق. بدا قوله ذاك سريع الانفعال، وغير متجانس.

ولكّن النفساء لم تستطع أن تُهدئ روعها، وتغلب عليها الرعاش بكل ما في الكلمة من معنى. لم تستطع التوقف. كانت ترتعش كلما دوى صوت انفجار جديد، وما انفكت تكرر بلهجتُها التي تنم عن نفاد الصبر، وعن التهيج، قائلة: -" لماذا أشعر بِكهرباء تسرَ إلى جسدي على صورة موجعة، مفرطة؟ " أبو كريم لم يفهم من حديثها شيئاً، فلما رأى أن الزوجة تتكلم وكأنها تهذي، أصبح لا يلتفُ إليها، وأخذ يعتني بالطفلة وحدها؛ هكذا وبروح معنوية عالية.


حدثّ أنه لم يسمع أبو كريم صوت زوجته على مقربة منه، ولكن عندما أنتبه إلى هذا التعبير المفاجئ في وجهها البارد، الساكن، يُخلد إلى الصمت، عرف ذلك أنه الموت، وفهم المقصد. فثبتْ في موضعه كالصنم؛ بفعل المشهد المروع، كان رهيبا بصورةَّ جلية؛ بحيثُ اعتلى الشحوب وجه أبو كريم حزناً، ونظر بعينين فضوليتين إليها. كان ألماً يُخالجه، ألم إنسان، لكنه ألم لم يشعُر أبو كريم له مثيلاً. كان هذا الألم الشديد الذي لا يمكن أن تُعبر عنه الحركات، ولا أن تفصح عنه الكلمات، يُفجر من عينيه تدفق مرعب لِقطراتٌ من الدمع الكبيرة، تنفذ من خلال أهدابه الصهباء الكثيفة، تجري على وجنتيه ببريق مُستثار وتوخزه.


أقرء أيضا مقدمة رواية شهيد الوطنية.

إرسال تعليق

التعليقات (0)

أحدث أقدم