كان المجاهد الذي بُترت ساقه، وجَّه انتباهه إلى أن الحياة في أرض فلسطين نضال لا هوادة فيه، ولا رحمة؛ فلا أمل في بذل الجهد، إعادة الروح في هذه الأرض، إذا غدا الوجود للمعوقين! وكان يخطر بباله دائماً أنه قد طرد للأبد، قبل أن يصل بجاهده الذي نذر له حياته إلى نقطة معينة، قبل أن يكمل عطاءه ويحقق شيئاً هاماً. وإن فكّرة تخفيه بعيداً؛ قد تُصرفه عن إزعاج الناس بوجوده، هو المجاهد الذي جردته الحياة من وطنيته، عاطفته، سلاحه، وألقت به في الرغَّام؛ مذلولاً بضعفٍ وشبه إغماء.
يمنكك قراءة الجزء الثالث من رواية شهيد الوطنية
وكان يتساءل: " هل على شخصه أن يبقى هكذا؟ كدودة يدوسها الجمع بغضب في أرضٌ مقدسة! هل يليق به أن يتمسك بركاب الحياة التي دنسها الجيش الضبابي بوصمة عارٍ ثقيلة وقوية، بمتاعب جمّة، وأن يسألها مننا أخيرة؟ ".
وبينما كان أبو كريم يفكّر من حين لآخر في هذه المشكلة بشيء من الرَهبةِ، الرعب. إلى أن مَضّ الرجل من هول المصيبة_ولكنه حاول أن يزن الحدود الملموسة للأمر وما عليه؛ بشجاعة وعمق.
أصبح أب في ذلك الوقت لطفلةٌ في طور الرّضاعة، وبطبيعة الحال يتيمة مذ اليوم الذي جاءت فيه إلى الواقع المشين؛ فأخذت تُشغل تفكيره بجدارة، وبهذا أصبح فقدانهُ الجهاد أمرٌ لا بُدّ منه، حيث أن حياته كانت بدأت تميل إلى جهادٌ جديد وكان هذا كله من شأنه أن يعوض الطفلة الرضا الغريزي •أمومةٌ حنونٌ• هذا تصورهُ حسبُ معتقده، وهذه فرصة وجد فيها مخرج من أزمته. التفت إليها في بادئ الأمر قليلاً، وقد سرت فيه قشعريرة، لم يكن ذلك عائد إلى شيء خفي، غامض. كل ما في الأمر أنه كانت تشله الوساوس.
كان قد بلغ حداً أنه يفكر في الشبه الغريب بين حظوظٌ ثلاث: حظه الذي لا سبيل إلى التغلب عليه، وحظ ابنته الذي بدا وكأنه أُضفي عليها مسحة خطرة من الهموم الآلام والمعاناة، وحظ أبناء وطنه الكئيب المتشرّد المتبطل.
وقال في نفسه ذات يوم، وهو مغرق في التفكير؛ وكأنه يحاول أن يتذكر شيئاً بالغ الأهمية جاداً في أن يتذكره، وقد اختلس نظرة إلى طفلته، بالرغم من أنها لم تكن تمنحه سوى نوعاً ما من الكآبة: " يا يِبنْاوية! لقد ورثت عن قريتي مهارة فائقة في شؤون الحياة، الكثير من الثقة بالله " صمت كأنه يرتب أفكاره الفوضوية وتابع حديثه: " يا يِبنْاوية! إن القدر الذي جمع بيننا، لم يكن صدّفة. قد يخرج منا نحن الاثنان، إنسانٌ فلسطيني واحد؛ يتخذ الطابع المرن، ويرفضُ حمل طابع نزوة محترمة ليتلاعب بها الصهاينة الجبناء، متدفقة من أعمق الأشياء، في خدمة الوطن ".
لقد ولدت الطفلة اليتيمة، ومضى على مجيئها القليل، وآفة الحرب ذات الوجه المألوف دقت الأبواب إلى درجاتها العليا. كان أبو كريم الذي بلغ الثامنة والثلاثين من عمره_الذي أرهقه التفكير الجاد بوطنه طيلة سنوات مضت، كان عليه أن يبدأ رحلة الحياة مزوداً بالثقة؛ فحسب. ومع ذلك فلا بُدّ أن يبذل لهذا الأمر بالضبط انتباها دقيقاً، واعياً. وأن يضع حداً في ذاته إلى انتهاء وجودية الانتداب البريطاني؛ إلى مصاعب أفظع مخيفة وحشية. تتخذ طابعاً متكدراً، مشئوماً، تنحدر منها مشكلات عصرٌ ضاع منه العقل.
وقتذاك التحقت الأحداث وتتابعت، إلى بعد ظهر يوم الرابع من حزيران/يونيو، وقد اهتاجت الآفة القرى الفلسطينية. وغزت الآفة الحلم العربي، في شيء يكمن وجوده من تحدِ إلى الألف معركة، شيء ما يلزم الإنسان؛ ولم يتمكن من منحه إياه سوى الإيمان العميق للتحدي، شيء لا يشبه المعروف في أعماق الروح الضبابية المحبة إلى الحياة، السلام المشئوم والجهل.
كان قلب أبو كريم يتفطر لوعة وحسرة كلما نظر إلى الواقع، مرتداً إلى الوراء؛ بما يشبه احتضار غير مألوف، كونه غريباً، شارداً--وواضح أنه كان يتألم، كما لو أن شبّ عليه حلماً غامضاً، بالحاضر التعيس، الخمول، الذي يحيياه وطنه وقريته يِبنْا، ولا يفعل شيئاً. ولكنه، فيما عدا هذه المشاعر، كان في أعماق جمجمته الصلدة يعاني فكراً عظيماً، في وضع غريب، مختل، مشوش؛ كما لو أنها تفتّت. فهو لا يجد في الأمر ما يدعو للراحة أو الفخر؛ مذ انتظر في وسط القرية عربة تجرها دابة، لتعود به وأهله رُغماً عنه إلى الحقول والخلاء، على أن يعودوا إلى منازلهم بعد أيامٌ قلائل، جالبين الاطمئنان والهدوء للذات.
لكن حنيناً غريزياً كان يضطرب في نفسه أكثر حياة وجرأة، كان يريد حماية ابنته. كان يتوقع أن هذا الإعداد وهذا التخابث الفطري الفكر الصافي والحل الأكيد الذي لا يرقى إليه الشك والذي هو حلٌ جاد، الحل الذي يمنح النفس البشرية طبع هادئ، غير منفعل. الحل الذي يظهر به معنى إضراب التاريخ والفلسفات الزائفة للأمم العظيمة؛ المتخاذلة.
ولقد وجد إبان لحظات الانتظار رؤية السماء مشبعة بخيوط بخارية غليظة؛ كنوع من القلق الغريب-صفعة هائلة. كما أنه رأى من الجهة الأخرى شجرة الجميز الضخمة تبرز من بين مباني يبنا القديمة، فلا يشعر إلا بالرضا العميق، الحنون. مع أن عيناه مثبتتان وغامضتان، إلا إنهما مليئتان بالأفكار. ولما بلغ الوقت أشدّه وقعت عيناه على أرض زراعية، كانت بيارة جميلة لحمضيات كثيرة ومتنوعة وقد افتخر بأنه طوال حياته لم يعشق سوى مواضع خضرة جذابة، وكان يفتخر أيضا بأنه ابن فلاح؛ مجاهد فلسطيني.
ومع ذلك فكان في وقت ليس ببعيد كئيباً، حزيناً. ولم تكن هذه الكآبة مرتبطة بقصة الأرض، أو موت الزوجة؛ بل كانت هي الكآبة التي تسبق العاصفة الوشيكة، والتي كان الجميع يشعر بها على نحو أقوى من ذي قبل، فكان يجد لذّة غريبة في التخيلات الحزينة التي امتزجت بالأفكار التشاؤمية، المتناقضة.

إرسال تعليق