حين سار أبو كريم إلى منزله، وفي حين كان كده المضطرب يكلفه جهداً كبيراً، تمكن من أن يستمع للهمسات الخافتة، الصامتة، لأن ضجيج مدافع المورتر الصهيونية، بدأ يتخلل صُداها الهواء، فيمر بين الحين والحين؛ فهو لا يستقرُّ على حال.
يمكنك قراءة أيضا الجزء الخامس والذي يدور عن صورة أحلامه الجميلة ليست إلا صورة مسلوبةِ من كيانُ الوطن العميق البديع.
" الدار دار أبونا واجو الغرب يطحونا " قال أبو كريم ذلك ما بينه وبين نفسه، بينما يفتح باب منزله، كان كل شخصه يوحي بنباهة وطنية صارمة، حنيناً شاقاً، جعل منه ثائراً. ولكن! ماذا ستقول غادة في حالته المنهكة المبعثرة؟.
ودخل أبو كريم إلى الغرفة الدافئة، يلازمه شعورٌ من الخوف والنباهة. كانت غادة بانتظاره، جالسة على حافة السرير، ووجد الطفلة الرضيعة بجانبها، سعيت إلى النوم.
أقترب أبو كريم صوب النافذة، فيما كان خياله، الذي لم يستقر مذ البدء، يُفرض عليه ستاراً من الضيق المكتوم، والذي يجتذب نحوه في الوقت ذاته تعب الأعوام الماضية.
وتلا ذلك انتظار طويل آخر. وأخيراً، رأى من نافذته، أطراف من سماء يبنا، التي كانت تنسجم مع وجهه القاسي، الحانق. وفي الواقع رأى شهب حمراء، ملتهبة، حارقة. أخذت الشهب تسطع لامعةٌ في السماء، بديهي أن الشهب كان الثوار يلاحظونها بإعداد كثيرة: كانت قد وصلت الشهب أقصاها، إلى أطرافٌ متاخمة، تضفي عليها أنها أراضٍ فلسطينية، إلى قرية روبين غرباً، وإلى المغار وزرنوقة شمالاً.
وكان الأهالي في هذا الوقت بالتحديد، قد فرض عليهم المغادرة، من قبل ثوار البلدة، خوفاً من قلق شديد، خسائر متزايدة. رغم القسوة في تصور الموقف، غادر الجميع إلى الجنوب، وعيونهم شاخصةٌ على البلدة؛ عندئذ علت الأصوات بالهتاف. وقال أحدهم بصوت متهدّج من الغضب، لا يكاد يخرج من فمه: " يمكننا الرحيل، على مسافة واحدة من الغريب، التافه. لكننا سوف نعود بعد أيامٌ ثلاث! سوف نعود غارسين في كياننا روح العروبة التي لا تهدأ! ".
كان بعد ذلك برحيل الأهالي، قد تعلّم بعض الثوار أن يلعبوا دور البطولة، فتقدموا يحاربون، وقد أصيبت الآفة الغريبة، إصابة قشعريرة لم يعرف لها حداً، تملل واكتئاب، من شدّة المقاومة. لقد لازم الثوار أرضهم لا يبرحونها!
كانت ثمة امرأة تتمشى في الطريق. سيدة عجوز، ذات وجه كئيب ومأساوي. كانت تسير بخطوات سريعة، قلقة على طول الطريق، تنظر أمامها مباشرة، ركبتاها محنيتان قليلاً. خفض بصره إليها بتعاطف كئيب، وابتعد منفعلاً، وأغلق نافذة الغرفة جزئياً، وأسرع نحو حافة السرير، فنظرت إليه بدهشة وقالت:
- " أبا كريم! كم هو لطيف منك أن تعرّج "
- _ " غادة! إنّ لديّ ما أقوله لك ".
عندئذ علت وجهها مسحةُ قلق وقالت: " ماذا حصل؟ هل هنالك المزيد من المتاعب مع الآفة الصهيونية؟ "
- _ " غادة! " قال أبو كريم: " إن الجميع يرحل إلى الجنوب، على أمل العودة بعد أيامٌ قلائل ". شحب لونُها ولمعت عيناها وقالت بهدوء: " ماذا تقصد؟ ".
فصرخ أبو كريم: " آووه، إن الأمر أفظع مما يعتقد البعض... " بدتْ عيناه كما كانت يوم أمس، كان يشعر بهما حارتين وثقيلتين، كما لو أنهما مرهقتان من النحيب، ومع ذلك هما براقتان أيضاً، بالوميض الذي اضطرم فيهما قبل لحظات لدى رؤيته المرأة الشاحبة، المجللة بالسواد.
" إن اليهود جبناء... " قالت غادة بصورة مفاجئة، " يمكنك أن تعلم أنهم جبناء، حمقى " وغادرت الغرفة هادئة البال-حين أدركت أن عيناها ثقيلتان، ولتخفي وجهها الأصيل الوضاح الباهر عنه، المرض الذي يتهكم عليها ويسعى إلى طردها. إنه الإدراك الأخير، على أية حال؛ فقد خرجت بحجة عمل كوباً من الشاي إليه.
وما لبث أن أتى الوقت الذي أتيح له فيه فرصة التفكير، حتى هب أبو كريم من فجعته متأثراً، محروقاً. كان كل شخصه معلقاً على فكرة الوجود، التحدي. شعَر أنه مكبل اليدين، رجلاً غير محرر، محتمياً بوجه عائق مشوه، واهن، تأوه باكياً، غارقاً في اليأس وقال إلى نفسه: " إنهم لا يريدون أن يكشفوا تعاطفهم مع الآفة الغريبة؛ فقد أدلى أحدهم بأسلوب بشع ' لن نزود الثوار بأيّ سلاح! ' يعتقدون أننا بائسون بعيدون عن دين الحق ".
وبلهفة دخلت غادة الغرفة الدافئة، حيث وضعت أمامه الشاي الوطني، وبعد أن شربه، قال: " بحق السماء! أنت فتاةٌ ماهرة يا غادة مذ خطواتك الأولى، فهذا أطيب كوباً أتناوله... ".
كانت غادة بطبيعتها تتمتع بفطنة ذكية، مرحة، كثيرة الاهتمام. ومع انسياب الدقائق، لاحظت؛ أن هذا البطل في أعماقه شيء يتمزق، غدا يتجسّد بوضوح في وجهه الرجولي، فصار ينتابه اضطراب شديد، مؤلم. بدا_وقد حل به الخوف والفزع، اليأس فجأة_وكأنه وقع مريضاً.
في هذه الأثناء، صبّت غادة تركيزها عليه، مضطرة إلى تلبية كل رغباته، فإذا غدا صامتاً، لاحظته بدا غارقاً في تأملاته، منشغلاً جداً وسط العذاب، وقد ارتسمت علائم الألم على وجهه الكئيب، الذي لا يتناسب مع عقد الرابع مع ما يلّوح به من جد وصرامة، وكأنها ذلك عائد إلى صعوبة خارقة واجهته، بانفعال-ملل متنام لا يفهمه بشر.
وهنا أدلت غادة بذكاء، ولقد فهمت الآن كل الفهم أن تستخلص من النار الكامنة فيه شعلة نقية؛ فقالت بصوت خائر: " لقد كنت على حق! ماذا لو ذهبنا إلى أسدود؟ وبهذه الحالة أنت موجود في الوطن، في خدمة شكل صارم، متمرد، على الدوام. فمن السهل عليك أن تضبط العفوية الخطرة التي تستولي عليك؛ بصورة مبكرة جداً. وهي معاكسة لتوقعات أيّ كان، تنتصر: حتى لكأنك تحاول أن تسترد بفكرة البقاء-سابق عهدك-الإنساني، إلى هيئة جديدة ".
دنا أبو كريم منها وهو يقول: " عرفانا مني بحسن قولك، فأني أمدحك على هذا الاهتمام " وترك يده اليمنى تتدلى بلا مبالاة على ذراع ابنته.
من أجل أن يفعل عمل عقلاني في الأجواء الصاخبة، ينبغي عليه أن يتقبل رأيها، وبصورة جادة، عميقة. كما أنه اعتقد أن لشجاعة العيش على هذا المنوال قيمتها من جهة أخرى، ولا سيما أنه يحمي ابنته-لا بل يمنحها مصيراً جديداً ما كان منذوراً له. بالنسبة إليه، بدت محقة في عدم الإصرار على البقاء-رغم وجود البقاء؛ فـأسدود في الأصل،أرضٌ فلسطينية.
ولكن في نفسه تغاضى الأمر، لأنه مناقض لنموذج البطل المشرف؛ فقد وعى باكراً أنه ينتمي لجيل يفهم جوهر الأشياء التي يريدها الإنسان-الفلسطيني-بطريقة مختلفة، لأنه كان موهوب على توفير حكيم لقواه، طاقاته الإبداعية، التي تستنفد في ميدان الفكر، بوجه خاص، في أداء أعمال عظيمة.

إرسال تعليق