عاد أبو فراس بصحبة حلاق من عيادة يبنا؛ فأقام هذا تجارب بعدما شبك أحدى يديه المغسولتين مذ وقت قصير ودعكهما معاً بتوقع مقبول-وهي عادة خاصة به يمارسها حين يبدأ عمله، على نحو لا يستطيع أحد أن يفهمه.
يمكنك قراءة الجزء الثاني من رواية شهيد الوطنية .
وبينما كاد يستدير شاهد والدة الطفلة متوتراً؛ وكأنه لا يستطيع أن يفلت من سحرها أبداً؛ فقال له في شيء من الاطمئنان: 'يا أخي! لقد خطئ ظنك؛ فالطفلة سليمة، ولكن اسمع... أعتقد أن الطفلة الرضيعة بحاجة إلى غذاء أفضل، لبنُ أمٌ قروية لينمو الجسد فيها...! '.
سمع أبو كريم التشخيص في دهشة هادئة، وبسبب حبه للنضال الذي تخوضه إرادته المجربة، التي تتلألأ في الأفق، قال بشيء من الرزانة؛ بصوت واثق آتِ من الحنجرة: "الحمد لله".
لم تكن الأسرة التي ولدت فيها الطفلة اليتيمة؛ كثيرة العدد. فهناك أبو كريم وأخته غادة، التي يحترمها جميع من في القرية بلا استثناء؛ لِدورها في التثقيف بمدرسة البنات التي أنشأت سنة ١٩٤٣م.
كان أبو كريم يشبه شباب قريته في الجنوب الغربي:- رجلاً طيب القلب، يشترك بدوره إلى أقصى ما يستطيع في القيام بالواجبات المفروضة عليه. يحب كثيراً أعمال الترميم، وأن يبذل لعمل كهذا، بالضبط انتباها دائماً، وعناية لا محدودة. وكانت أعماله تستنفد كل وقته تقريباً؛ وهو الذي يمكننا القول إن كل الأعمال معه كانت تتسم بحماسة جذلة، ينبغي أن يكون لديه وقت فراغ للمشاركة الاجتماعية.
لذا، كان نادراً ما يُسمع صوته في البيت، وإذا فعل فعلة مثيرة؛ ابتسمت غادة بشيء من المتعة، وأشرقت جبهتها؛ لإتاحة الفرصة لشيء من البهجة والسرور، فكان عندئذ يكرر هذه العبارة "غدوش! جهزي الغداء" على أمل أن تعيد إليه وجبة الغذاء حيويته وتعود عليه بأمسية عمل نشيطة.
وكان من حين إلى حين، في النادر القليل، يتحدث بروح فخر عن حرفة أهله الأصليين؛ الزراعة. وكيف كانوا يخزنون القمح في الصوامع، ويجمعونه في يوماً مشهوداً، فيما بعد الحصاد.
كان واضحاً أن هذا الرجل المسالم البسيط، تنبع من أعماقه تيارات متدفقة من الشغف والأمل، إلى عودة الوطن مجروراً إلى أيامه العظيمة.
أما في الخارج، فكان رجلاً مختلفاً كل الاختلاف عما في البيت؛ ففي عهد الثورة الكبرى، كان والده يقنعه أن يخرج مع الثوار في سبيل الوطن. وبهذا أصبح اليهود يعتبروه أخطر طفلٌ فلسطيني معادٍ لهم_لا في المنطقة التي تقع فيها أرضه فحسب، بل أيضاً في القرية المجاورة. جعل هذا أبو كريم يتحول إلى العلم، وهكذا كانت الأفكار المختلفة تتقاذفه إلى أن غدا مجاهداً.
كان السر يكمن بوالده، حيث أن الآخر كان يشعر كل لحظة يرضاه الشديد، ودون عناء واثقاً من رغبته، بل أحقيته بردع الظلم عن وطنه، والذي حاكمته محكمة الانتداب البريطاني لمدة خمسة عشرة عاماً؛ بحجة الإخلال بالنظام والتحريض على الثورة ضد الجيش الإنجليزي.
كان لا يفهم أحدٌ من عصابة أرجون الصهيونية، كيف يمكن أن يكون هذا الشابُ الشرس إبناً لقرية يبنا، القرية التي يعتمد سكانها على الفلاحة، ولا يعرف أحدٌ منهم كيفية التصرف معه أو نفيه.
كان أبو كريم يرد على ملاطفة المخاتير بشجاعة، كما أنه كان يساعد الثوار بأمور كثيرة، من شأنها أن تُخرج اليهودي عن طوره، فيرد عليه ببندقية من طراز ألماني.
علم كل واحد من أبناء قريته، لماذا تميزت منظمة الهاجاناة الصهيونية غيظاً به وكرهه، هذا ما جعل الجميع من الناس، حتى في القرى المجاورة، يفكرون تفكيراً جاداً بحمايته. كان هذا عندما أحضر برفقة مجموعة من الثوار، رأس بن زعيم المستوطنة المجاورة لبشيت، وطافوا به زوايا القرية، حيث انتهوا في مقام أبو هريرة، مما جعل غيظ اليهود يشتد عليه، وعلى أهالي يبنا؛ ففي مطلع أيار اغتالوا والده في السجن، يوم حاصروا مدرسة القبيبية في القرية المجاورة؛ إمعاناً في الزندقة به، وبثوار القرى الفلسطينية.
وبديهي أن اليهود كانوا، حانقين عليه، وفي الواقع بصورة جد عدائية، حتى أن صحيفة The Palestine post، وهي الصحيفة التي يفضلها اليهود الأصوليين؛ لعدم وجود شيء آخر أفضل منها في المنطقة، كانت تذكر اسمه بكتابات تناسقية بارزة، واضحة، أنه من بين أشد أنصار الثورة؛ واجه اليهود بِضراوة مباغتة.
وفي صبيحة السادس عشر من مايو/أيار أعلنت الصحيفة ذاتها للناس جميعاً، ولادة ما يسمى بدولة إسرائيل، إضافة لهذا؛ أعلن اليهود الذين يحقدون مذ فترة طويلة على هذا الثائر، على ما حل به من غبن_الذي ظل أهله يفتخرون بصموده_قد ثارت ثائرتهم، بعلائم ابتهاج بادية على وجوههم، فلا عجب إذا ما استبد بهم الفرح، عندما انقضوا عليه، وقطعوا إرباً من جسده بشيء من التطفل، كما لو تُعصر حبة الزيتون؛ برغبة وطنية لفلسطيني متعطش، وقالت منظمة الهاجاناة للجمع يومئذ: "بئس المصير".
فوجئ أبناء القرية بعودة المجاهد إلى بيته. ومع انبلاج الفجرِ، ذهب أبو فراس إلى جامع البلدة الكبير، محني الجذع ومتصلب الركبتين، كرجل هدّه الإعياء. وعلى أية حال، استجمع قوته بوضوح لدى إنهاءه الصلوات المفروضة. شاهد الجمع يراقبون خطاه بحذر شديد وهو يخرج، فيما يحمل بيده اليسرى عكازة يستند إلى مقبضها على نحوِ من الانحناء.
لقد كان يعلم أن النظرات إليه بلغت الذروة، ولم يكن باستطاعته فعل أي شيء. عندها، قرر أن يصبح رجلٌ أكثر رصانة؛ بصورة مدهشة، فهدأ باله. وأصبح مع مرور الزمن لا يبدو متشامخاً لماضيه؛ لأنه قرر أن لا يظهر في المجتمع إلا نادراً. وغدا يباشر معظم وقته، بعد إنهاء عمله، غارقاً في الذكريات، في وجه الشمس الغاربة، التي كانت تُبهره.
وفي الفترة التي أصبح فيها عُمر الطفلة الجديدة الأسبوع، وبان قلبها النابضُ بالحياة. كانت خيوط بيضاء قد أخذت تلمعُ بهذيان هنا وهناك في شعرَه الذي كان يتركه طويلاً، ولكنها تلمع على نحوٍ جيد تحت أشعة ضوء القنديل الخافت. وأصبح يبدو جسده كله ساكناً. نعم، شحوب فوسفوري، شفافاً، مسحة من يدفن شخصه في كهف قديم، وفكره الغريب الذي يتخذ سمة تأملية عشوائية، مُفرطة، مُسايرة للوضع الراهن، بعد موت الزوجة.
لقد بدّت عليه كُلُّ علامات الجنون، ولكن لسبب ما بقيت غادة شاكَّة في أنه مجنونٌ فعلاً. وقد أدركت أن عقلاً لا ينهك كان يعمل في هذا الرأس الأشيب، المتعرقّ الذي يغطي جلده؛ شعرُ كثيف أشعث.
ولكن جيرانه أنفسهم كانوا يجهلون المشكلة التي يستسلم فكره إلى تأثيره المستقبلي. وإنما كانوا يرونه يجلس في مقهى القاضي، من غير شك ساعات طوال ثابتاً، ساكناً لا يتحرك؛ لأنه نسي الرقاد مجدد القوى، باعث السكينة؛ أو كان قد استبد به الفكرّ، دون أن يظن به أحد السوء، أو أنه ليس أهلاً للثقة، في الانطلاق دون هدف إلى البعيد، على غير هدى.

إرسال تعليق