لقد وجد أبو كريم في موت الزوجة، في ميعة الصبا. أنه قد ولّد مع الطفلة مصير يسر إلى شقاءٌ غامض لا يرقى إليه الشك، وشعر بتململ غريب في أطرافه. أقول بحماسة، وبصورة جادة. مع أنه، متجنباً بِحذر لغة المشاعر. قد لا يكون هذا الشعور إلا شعور مرضٌ معكر؛ نتيجة استسلامه إلى الحزن! ومهما يكن من أمر؛ فقد ولدت الطفلة يتيمة الأم، بعد أن ضرَّمت النكبة في أرض الوطن؛ شعلتها.
لقراءة الجزء الاول من رواية شهيد الوطنية
كان ذلك في أوجُ أيار، وقد أُعقبت الأرضُ بتقلباتُ الدهر، وشرّد ألوفاً من أبناء القرى المجاورة شرّ مطردّة، وأتت هبةُ ريح ملعونة نحوّ البلدة، بِتوّهج ناري، حتى غدت المدرسة الابتدائية في قرية يِبنْا؛ بشعة مخيفة_باردة، متحوِلة إلى مغارةٌ سوداء موحشة؛ وكأنها لم تعد متعطشة إلى طلابٌ أقلة.
راقب أبو كريم لفترة، باستمتاع نابضُ من القلب، نظرةُ الطفلة التي كانت مسَّمرة في السقف. كان مسروراً جداً؛ لأنه قد اكتفى حتى ذلك الحين بسهولة، وبالصورة التي تأمل للطفلة وإلى جميع الأطفال أن يأخذوها عن هذه الدنيا •حب الوطن• إلى أن يبلغوا سناً معينة؛ وكأن شعوره غدا دقيقٌ، كي يضيف وقوداً عليه، على نحو يبعث على الهذيان.
إنسابت الساعات، واحدة تلوّ الأخرى، دون رجعة. وأخيراً، أصبحت الطفلة الرضيعة بعد؛ عمرها بالأيام. وعندما اقترب أبو كريم من السرير، استولت عليه فجأة، وخزة، بإحساس كبير بالمسؤولية. لقد كان بِمفرده، باستطاعته أن ينجح في هذا، وكان عليه أن يكتشف بأُذنيه عجيج الثائرة المتمردة؛ بِعناية متناهية. كان في ميسوره أن يرى جمالها المتألق؛ بل ملامحها ككل، ليصبح نِضاله ملئ بالحياة والأمل. ولكن، ما هو سبب رعشاتها الغريبة؟ هذا ما لم يستطع أبو كريم سبر غوره.
بين الفينة والفينة يكفهر وجه أبو كريم؛ عبثاً. لقد شعر بقلق شديد، فهي ابنته الوحيدة، ويجب عليه أن يضعها في نُصب عينيه. وأخيراً، التفت إلى ملامح وجهها؛ الذي يُعكس على روحه صورةَّ لها حلوة، مهيبة.
حيث أخذ نفساً عميقاً، بعد أن انتبه إلى هذا التصرف البهلواني؛ وكأنه آت من التغريدات الأليمة للطيور الفزعة التي تخترق الوديان كوادي أبو هريرة، آتٍ من حفيفُ شجرات التين الخضراء التي يختبئ تحت ظلالها عشرون رجلاً.
كان أبو كريم قد حاول أن يُلاحظ؛ بِمظهر الواثق. هذا التعبير الغريب في رعشات الطفلة الرضيعة، اضطرب قلبه في صدره، فهذا لا يتناسب بما فيه من جد مع عمر الطفلة؛ فشرعَ يتمشّى ذهاباً وإياباً، محاولاً الاهتداء إلى معرفة ما تُعاني منه الطفلة. كان يعلم أن الطقس المتقلب ليس سبب اضطرابها، وأن القضية أسوء من هذا إلى درجة غير مألوفة. ماذا بها إذاً، سأل شخصه. كاد أن ينفجر من شدّة التفكير، فأحسّ في داخله وهو مندهش، نوعاً من القلق الصامت؛ بحيث توّقف إلى يمين الطفلة وعيناه مطرقتان، مسّمراً إلى الأرض، يتفحص رعشات طفلته بما فيه الكفاية؛ فيشعر بمزيدُ من القلق.
وقبل أن يتمالك نفسه ويجلس، فُتح البابُ ودخلت غادة، ونظرت إليه كعصفور فزع، عنقه بين جناحيه ونظراته جامدة.
-" سمعتُ وقع خطوات أقدام! " قالت غادة متمتة، وتنفست من فمها: -" عندما كنتُ مارة بالجوار؛ فقررت أن أدخل، لأطمئن عليكم! ".
سار إلى الأمام حيث أقترب منها، وأجاب بِبرود " حسنا! نحن بخير " وساد الصمت الغرفة الطينية. وفجأة ضحكت غادة وكانت قبل لحظات مسالمة هادئة.
-" لماذا كنت تتمشى هكذا؟ " سألت أبو كريم بتردُّد. " ما الذي يُشغلك حقاً ". وخلال ذلك كان الحنق يستبُّد بأبي كريم فأجاب بِغضب ساحق: -" إن كُلّ ما في الأمر___ استبد بها الرعاش، إنه موضوع ذات انفعال! ".
صاحت الأخت، وكأن رصاصة يهودية ألهبت صدرها؛ فاهتاج قلبها حتى قد بلغ حداً لا يمكن معه لأي شيء أن يُرضيها وقالت في سِرُها، مُستبد بها هاجس خوف: " اللهم أحميها ".
وفجأة تغيرّ مزاجُها، بعد أن لاحظت ضراوة الرعشة في الطفلة أقصاها، وقالت: -" اسمع يا أبو كريم، يجبُ عليك أن تعرف أن الطفلة بدت حالتها سيئة، اذهب إلى الحلاق وتعال معه إلى هنا، قد يتمكن من معرفة المشكلة؛ فهو رجلٌ لا يكهل، اذهب الآن! ".
تحرك أبو كريم بثقلِ نحوّ الباب حيث توقف بغتةّ، وألقى نظرةَّ ثانية على الطفلة الرضيعة، وتذكر زوجته الشابة التي فارقت الحياة؛ فأسرع نحوّ ابنته وحملها بيديه، متأثراّ، قبلّها، ثم أغلق الباب بعنف واختفى إتكاليا في سبيل العثور على إجابة.
كانت غادة تبكي بحرقة، وهي تشدُ الطفلة إلى قلبها؛ فقد أثارت مخاوف أبو كريم شكاً آخر ينساب في ذِهنُها " هل الطفلة مريضة حقاً؟! " وعندما استلقت على السرير، كانت تشعُر أن شيئاً ما ينقص عملها بصورة واضحة؛ فأخذت تُغني، غِنوة لم تحفظ سواها. كانت أُمها تردّدها مذ زمن الثورة الكبرى؛ فيُفنى النوم من عيناها وتُأجج في حواسُها أن الوطن سوف ينعم بالأمن والسلام. فهتفت غادة بصوت لحني رنان: -
- بدي علم فلسطين يرفرف على القدس.
- شاشات ما بدي شاشات، ولا أنا غاوي الشاشات.
- بدي علم فلسطين، يرفرف على المحطات.
- ولكنّ الطفلة لم تنتهي رعشتها الباهتة الساكنة؛ كأنها من عالمٌ أغرب.

إرسال تعليق